السبت، ٢٣ ديسمبر ٢٠٠٦

الأرقام الناطقة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


الأرقام الناطقة
قصة محمود البدوى


كانت سرعته الثابتة ثمانين ميلا فى الساعة .. وهى سرعة كافية لوصوله إلى الإسكندرية قبل منتصف الليل ..

وكان الطريق الصحراوى فى هذه الساعة من الليل خاليا فى الواقع إلا من قليل من السيارات الذاهبة والراجعة التى كانت تبدو بأنوار مصابيحها من حين إلى حين ..

وشعر حسن بنعومة الطريق تحت العجلات ، وأخذت السيارة تخب خببا .. وكان يسمع لها صوتا رتيبا منغما أشبه بهدير البحر ..

وكان ذهنه صافيا برغم تعبه خلال النهار واحساسه بالحاجة إلى النوم وزاده هواء الليل الرخى صفاء وبهجة ..

وكان قد اجتاز المنعرجات التى قبل الكيلو " عشرة " ثم استوى فى الطريق السوى .. وهو يمضى بأقصى سرعته ..

ولم يكن من طبيعته أن يسرع بسيارته كلما سافر من قبل .. ولكنه وجد نفسه لأول مرة وليس فى الطريق سواه .. فانطلق ..

وكان الشباب والحيوية الدافقة والفرحة بما هو ذاهب إليه هناك قد جعلته يسافر فى الليل ولا يستطيع الانتظار إلى الصباح ..

وعندما أوغل فى جوف الصحراء بسجى الليل كانت برأسه الأحلام الذهبية وتصور نفسه وقد تدرج فى مراكز الشركة حتى يصبح مديرها وصاحب الأمر والنهى فيها .. وعندئذ سيتزوج أجمل فتاة .. ويجعل له بيتين واحدا فى القاهرة والآخر فى الإسكندرية .. ليكون فى الحالتين قريبا من عمله ..

وكان الضوء المنبعث من المصابيح الأمامية .. يبين الطريق ويرتمى فى طول الصحراء كأنه لسان طويل من اللهب ..

وحينما ترك مقود السيارة لحظات وأشعل لنفسه سيجارة .. كان يحس كأن العراء والليل ملك له وحده ورفع النافذة الزجاجية الصغيرة الملاصقة له ليشعل السيجارة فمنع الهواء من التسرب إلى الداخل .. ونفث الدخان ..

وفى صمت الليل .. كان يقود السيارة بعقل الرجل الواعى .. كان يقودها بأمانة ..

وكانت وحدته تدفعه إلى اليقظة وأن يحمى نفسه من النوم فى هذا الطريق الناعس ..

وبمجهود جبار ظل متيقظا وكان النوم معناه الهلاك له ..

وكانت قدمه على " البنزين " وهو يضغط عينه من حين إلى آخر بأصابعه .. وكذلك جبهته .. ليظل بكامل وعيه ..

وكانت السيجارة فى الواقع تلهب حواسه وتزيده يقظة أكثر من أى شىء آخر ولهذا أكثر من التدخين ..

وكان يتطلع إلى حافة الصحراء الجرداء .. وإلى ظلام الليل وسكون التلال الشاحبة .. وعنده احساس من يمضى بين السحاب ..

وكان الظلام الدامس والسكون المطبق والتلال الصغيرة وأعمدة البرق والتليفون القائمة فى جانب من الطريق .. تكون أشباحا غريبة الشكل تبدو للمشاهد ثم تختفى بسرعة مذهلة ..

وكانت الريح عندما تدوم وتزأر فى جوف الصحراء يخيل إليه أنه يسمع صياح الغيلان هناك وهى تتعارك فى مجاهل هذا التيه ..

ولما سكنت الريح وصفت الدنيا أمام باصرته .. أخذ يعد فى ذهنه ما هو مقدم عليه من عمل للشركة ..

وقفزت إلى تفكيره فكرة تسلطت عليه وظلت تلاحقه .. وأفسح لها المجال حتى أتعب ذهنه ..

وعندما اقترب من الاستراحة فى عرض الطريق .. أدهشه أنه لم يشاهد نور البرج من بعيد .. لا بد أنه نسى .. ولم يحس بنفسه .. أغفى وهو لايدرى من فرط التعب الذى بذله فى النهار ..

ورفع غطاء المحرك .. ودخل المقصف وجلس فى الزاوية البحرية .. وطلب فنجانا من القهوة .. وكان فى المقصف قليل من الرواد .. وكان منهم من يتعشى ومنهم من ينتظر ..

وشاهد حسن فى الجانب المقابل من الشرفة سيدة جميلة تجلس وحدها وكان مرافقها ذهب إلى دورة المياة .. وطال مكوثه هناك .. فأخذ يبادلها النظرات وأحس فى عينيها ببريق المودة .. وكانت هيفاء القد جميلة العينين .. وكانت تدخن .. وتجذب الأنفاس من سيجارتها بشكل يثير الرغبة فى شفتيها ..

وبدت فى الليل وفى سكون الصحراء .. أجمل ما يتمناه الرجل ..

ومن صفحة السماء الجهمة .. انعكست أضواء المصباح الكشاف الدائر فى برج الاستراحة وكان هو الشىء الآلى المتحرك الذى يشوه السكون ويشوه جمال الوجود فى هذه اللحظة ..

وكانت المرأة قد غيرت وضعها عندما عاد إليها الرجل .. فحول حسن وجهه شطر الصحراء .. وكانت أطباق الليل تتجمع هناك .. وألسنة حمراء من الضوء .. ومن الظلال تخلق أشباحا وتبدو كأنها تتحرك عادية على الرمال ..

ولما سجى الليل جلس يدخن ويشرب القهوة .. وبدت الصحراء الساكنة .. والسماء الزرقاء .. والريح الرخاء .. كأنها تعمل جميعا على صفاء نفسه وارخاء العنان لآماله .. فى مدى ثلاث سنوات سيكون مديرا للشركة ويزيح عبد الحى وكل منافس آخر عن طريقه .. وسيكون الأمر كله له ..

وأحس بعد أن شرب القهوة بأنه استفاق ونشط قليلا .. أزاحت عنه بعض التعب وأيقظت حواسه .. ولكنه كان يحس بحنين إلى النوم وبدا له أن يتحرك .. إلى البهو الداخلى ليسأل عما إذا كانت توجد غرفة خالية فى الاستراحة .. ليقضى الليل فيها وفى الصباح يستأنف رحلته .. ومع أنه وجد الغرفة فإنه عدل عن رأيه واتخذ سبيله إلى السيارة وانطلق بها فى جوف الصحراء .. وريح الليل ترطب وجهه وأغلق الزجاج الجانبى .. وأخذ يضغط على البنزين كان يود أن يقطع المسافة الباقية ، فى ساعة وربع الساعة على الأكثر ، يصل بعدها إلى مشارف سموحة ..

وأحس بعد أن قطع حوالى خمسين كيلو مترا بالعربة ، وجد نفسه وحيدا فى الطريق ، كانت العين تخترق الظلام .. ورأسه كله متفتح لليل وكان صوت الرياح يعوى .. وبصر بسواد من بعيد يسد عرض الطريق ثم وضح أمامه .. فإذا به قافلة من الجمال تعبر الطريق من الجانب الشرقى إلى الجانب الغربى .. وكانت قد أثارت حولها سحابة من الغبار ..

واختفى لمعان الاسفلت .. واستطاع من خلال سحابة الغبار .. أن يتبين وجه الطريق بصعوبة .. فرفع قدمه عن البنزين وتمهل فى سيره تماما ..

ولما عبرت القافلة وتبددت سحب الغبار أخذ يسرع .. وعادت الأرض الصلدة تحت بصره والفوسفور يضىء فى منتصفها .. وبدا الطريق كالبساط المرصع بالدر ..

وفى الحال أسرع حسن .. عاد إلى " البنزين " يضغط بقدمه .. وفى مثل خطف الريح انطلقت السيارة .. وفجأة أبصر شيئا يتحرك أمامه .. فضغط بكل قوته على الفرامل ولكنه لم يستطع أن يتفادى ما وقع .. وأحس بجسم السيارة وهو يضرب جسما آخر فى عنف بالغ .. وانتابته رعشة .. وفزع .. انتابته حالة لم يكن مقدرها ولا معدا العدة لها وحدث ما لم يكن يتوقعه أبدا .. فانطلق بالسيارة هاربا وهو لايدرى ولا يلوى على شىء ..

وأحس بالعرق يسيل من جبهته على خديه .. وابيض وجهه .. ولم يعد يبصر الطريق توقف ووضع كفه على صدغه وفتح فمه وأغلق عينيه .. لقد استسلم للمقدور فى لوح الأزل وتراجع بظهره وهو يحس بطنين أذنيه .. ثم وضع رأسه على عجلة القيادة .. ماذا جرى ما الذى حدث ولماذا يحدث هذا الشىء البغيض .. ولماذا يقدر له هذا .. ويحدث فى مثل خطف البرق ..

ورفع رأسه ونظر إلى الخلف .. ولم يكن هناك ما يمكن مشاهدته .. ووجد نفسه يفتح باب السيارة ويخرج منها .. وضرب الهواء صفحة وجهه ومشى على رجليه راجعا إلى حيث وقع الحادث .. وكان يقترب وهو يحبس أنفاسه وأحس باضطراب شديد كلما اقترب من الرجل .. وجد اعرابيا يرتدى الجلباب وقد طار غطاء رأسه .. ونظر إلى وجهه وعرف أنه شاب وكانت الصدمة قاتلة .. ولكن المصاب لم يمت .. بعد ..

كانت أنفاسه لاتزال تتردد وعيناه تحملقان فى رعب ودون وعى فى الشخص المجهول الذى يقف على رأسه ثم كأنه عرفه وعرف أنه السبب فيما حل به من عذاب فبدت منه نظرة غيظ مستعر ارتجف لها حسن ..

ورأى حسن أن بغير من وضعه فشده من جلبابه .. وأبعده عن الطريق خشية .. أن تمر عليه سيارة أخرى .. ثم تركه وعاد إلى سيارته .. واستأنف السير وأحس بيديه الممسكتين بالمقود لزجتين من العرق ..

وكان يحسب نفسه قد أراح خواطره كلها ولكن بعد بضعة كيلو مترات .. توقف .. ونزل ثم غير اتجاهه وحول وجهة السيارة وعاد يستقبل من طريقة ما استدبر .. وعلى بعد قليل من الرجل الملقى على الرمال توقف .. ونزل من السيارة .. وتقدم على مهل نحو الرجل مرة أخرى وفى تلك اللحظة .. أحس بقلبه يتوقف .. كانت الخواطر تدمره .. وكان يتوقع مرور أية سيارة فى تلك اللحظة وربما شاهد سائقها الرجل المصاب ويعرف الأمر كله ..

وبسرعة تقدم نحو الرجل ونظر إلي وجهه فوجد أنه يدمى واحدى عينيه قد غطاها الدم .. كانت الصدمة فى الجبهة ..

ووقف حسن ينظر إلى وجه الرجل الذى سيغير مجرى حياته .. ويرسم فى لوح القدر خط شقائه .. فشعر بكراهية شديدة نحوه ومقت بالغ .. وفى دوامة من الخواطر المريعة العاصفة أخرج سريعا مسدسه من جيبه وأطلق رصاصة على الرجل فى الجبهة فى مكان الاصابة .. وأسرع إلى سيارته .. أنه لايحب أن يرى مشهد رجل يموت .. واستدار بالعربة متجها إلى الإسكندرية كما كان ..

وبعد ربع الساعة أحس أنه استراح .. وأنه فعل الشىء الذى لا بد من فعله .. فما معنى أن يغير إنسان عديم القيمة مجرى حياته .. أنه شيطان خرج من جوف الظلام وارتمى أمام العربة فلا بد من قتله ..

وزادت سرعة السيارة وكان دمه يتدفق فى عروقه وهو يقترب من كشك المرور فى العامرية أنه الحاجز الوحيد .. وبعده يدخل حدود المدينة وينطلق فى الأرض الواسعة .. وأحس بضربات قلبه كالمطارق .. وقلل من سرعته نوعا ما وعيناه ترقبان الجندى من بعيد بحذر ويقظة وأشار له هذا ليعبر دون أن ينظر إليه أو إلى السيارة .. وانطلق حسن كالسهم .. وهو يود أن يصيح فى قلب الليل لقد نجوت .. لقد انتهى الحادث .. بالنسبة له .. وإذا عثروا على الرجل فسيعرفون أنه مات من ضربة الرصاص .. وليس من صدمة بالسيارة ..
وأحس بالفرحة لأنه نجا ..

لقد انتهى الأمر وعليه الآن أن يتسلى بالمناظر وينسى نفسه .. وأن يقاوم رد الفعل والقلق وأن يبحث عن البهجة ..

وأخيرا لم يبق بينه وبين سموحة سوى خمسة أميال ثم يدخل بين المساكن والحدائق الجميلة .. ويحس بأنفاس الحياة .. ويخرج من هذا التيه المعذب .. ان السيارة الآن لم تعد لها علاقة بالموت بعد أن دخلت أضواء المدينة ..

لقد انتهى هذا الحشد من القلق والعذاب واللوعة فى تيه الصحراء ..

انك لا تشعر بالخوف فى المدن ولا تحس به يسرى فى الياف لحمك إلا فى الصحراء .. حيث الظلام والتيه ..

وكانت أضواء المصابيح الأمامية ترتمى على الأرض كأنها تقبلها .. كان حسن شاعرا بالفرحة وخيل إليه أن المدينة تتزين لاستقباله وأن الأرض مفروشة بالبساط .. أن المعجزة تحدث فى أية ساعة وقد حدثت الآن ..

كان يجاهد ليرى الثغر الجميل كما شاهده من قبل ..

***

ومال فى شارع جانبى عندما اقترب من محطة الرمل .. ليودع السيارة فى جراج هناك .. يعرفه ..

ودخل بالعربة الجراج وفتح بابها وخرج منها وهو يتنفس الصعداء .. وأمسك بالسلسلة التى فيها مفتاح المحرك .. فى يده .. واتجه إلى عرض الطريق ..

وقبل أن يبعد سمع السائس يصيح به :
ـ النمرة .. يابيه .. النمرة سقطت ..

وكأنما صوبت إليه من الخلف طعنة من خنجر مسموم فاستدار ..

وحدق فى رعب ليواجه الضربة .. رجع إلى السيارة ودار حولها .. دار أكثر من دورة ونظر إليها من أمام ومن خلف كانت نمرة السيارة الأمامية .. ساقطة ولا أثر لها .. وأدرك أنها سقطت هناك فى مكان الحادث من أثر الصدمة .. هناك بجوار جسد الرجل الذى صرعه منذ ساعات ..

كانت تحمل أرقاما خمسة تبدأ بالإثنين وتنتهى بالأربعة .. وما أشبهها بالأرقام التى تعلق على صدر المسجون ..

وفى وضح النهار سيجدون النمرة هناك .. ويعرفون السيارة وصاحبها .. انها أرقام ناطقة .. فيا لحكم القدر ..

وقال للسائس وهو مضطرب كلاما لامعنى له يعلل به سقوط النمرة ثم خرج من الجراج .. وسار فى المدينة على غير هدى فى الليل الساكن .. ثم وجد نفسه يمشى فى شارع البحر ويصغى إلى صوت البحر .. ويراقب النجوم فى السماء .. ولكنه كان فى أعماقه ينظر إلى باطن نفسه ..

ان حياته زائفة والأمانى والأحلام كلها باطل فى باطل .. والوجود نفسه زائف .. والإنسان لايملك من أمر نفسه شيئا .. وما قدر سيكون .. ما قدر سيقع .. والحياة عديمة القيمة بالنسبة له .. ان وجوده الحقيقى عدم باطل الأباطيل ..

ومال إلى فندق هادىء وكانت الساعة قد اقتربت من الثانية صباحا .. ودخل غرفته وأغلق الباب عليه ..

لقد ظل هناك ساعات متمددا فوق الفراش محدقا فى سقف الغرفة وقد عجز عن التفكير كان يتنفس بمشقة .. ويحس بالعرق يبلل الفراش ..

كان وحده على السرير .. ولكن كان يرقد إلى جانبه شبح الرجل الذى صرعه .. وتحول كل شىء إلى خوف .. خوف حولته الأحداث سريعة إلى مثل عذاب السعير .. وسرى فى جسده الألم والرعب ..

ولو كان فى القاهرة لحدث صديقه عبد المنعم وقص عليه ما حدث .. ولخفف عنه بلواه ولعمل بمشورته ونصحه .. ولكنه وحيد الآن للعذاب والقلق .. ان الاحساس بالعدم .. يسيطر عليه وأغلق عينيه من الغم وشحب لونه ..

وسمع جلبة فى الدور السفلى وحركة أقدام سريعة على السلم .. فتصور أن البوليس عرف مكانه وجاء يطارده الآن ولم يكن على استعداد لملاقاتهم ولم يكن على استعداد لأن يواجه أحدا على الاطلاق ..

أخرج المسدس من جيبه وأطلق على رأسه النار وأعقبه السكون ..

وكان الصاعدون على السلالم قد سمعوا صوت الطلقة ولكنهم حسبوها آتية من الخارج فلم يعيروا المسألة التفاتا ومضوا إلى حجراتهم ..

أما كاتب الفندق فقد رأى وميض النار فى غرفة النزيل الجديد واشتم رائحة البارود .. وعرف بتجاربه وحسه ما حدث تماما .. دون أن يتحرك من مكانه ..

وحرك قرص التليفون فى الحال وهو ينظر إلى الساعة ..
=================================
نشرت
القصة فى صحيفة أخبار اليوم 11/11/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " ل محمود البدوى
=================================


ليست هناك تعليقات: